سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} الشرح: الشق وأصله التوسعة، وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى: من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح، {وَمَن يُرِدِ} إضلاله {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} قرأ ابن كثير {ضَيقاً} بالتخفيف مثل هين ولين. وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان. وقرأ نافع {حَرَجاً} بالكسر، ومعناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً، وحسن ذلك اختلاف اللفظ. وقرأ الباقون بالفتح، جمع حرجة، وهي شدة الضيق، والحرجة الغيظة، والجمع حرج وحرجات، ومنه فلان يتحرج: أي يضيق على نفسه.
وقال الجوهري: مكان حرج وحرج، أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم.
وقال الزجاج: الحرج أضيق الضيق.
وقال النحاس: حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به كما يقال: رجل عدل.
قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء} قرأ ابن كثير بالتخفيف من الصعود، شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه، بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء. وقرأ النخعي {يصاعد} وأصله يتصاعد. وقرأ الباقون {يصعد} بالتشديد وأصله يتصعد، ومعناه: يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة، كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء. وقيل: المعنى على جميع القراءات: كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوّاً على الإسلام، و{ما} في {كأنما} هي المهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية. قوله: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً يجعل الله الرجس. والرجس في اللغة: النتن، وقيل هو العذاب، وقيل: هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقيل: هو ما لا خير فيه؛ والمعنى الأوّل هو المشهور في لغة العرب، وهو مستعار لما يحلّ بهم من العقوبة وهو يصدق على جميع المعاني المذكورة. والإشارة بقوله: {وهذا صراط رَبّكَ} إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، أي هذا طريق دين ربك لا اعوجاج فيه. وقيل الإشارة إلى ما تقدّم مما يدل على التوفيق والخذلان، أي: هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وانتصاب {مُّسْتَقِيماً} على الحال كقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91]، {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] {وَقَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي بيناها وأوضحناها {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ما فيها، ويتفهمون معانيها. {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبّهِمْ} أي لهؤلاء المتذكرين الجنة، لأنها دار السلامة من كل مكروه، أو دار الرب السلام مدخرة لهم عند ربهم، ويوصلهم إليها {وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي ناصرهم، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} للسببية أي بسبب أعمالهم.
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الظرف منصوب بمضمر يقدر متقدماً، أي واذكر يوم نحشرهم أو {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} نقول: {يَامَعْشَر الجن} والمراد حشر جميع الخلق في القيامة، والمعشر الجماعة: أي يوم الحشر نقول، يا جماعة الجن {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أي من الاستمتاع بهم، كقوله: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} وقيل: استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فحشرناهم معكم، ومثله قوله: استكثر الأمير من الجنود، والمراد التقريع والتوبيخ، وعلى الأوّل، فالمراد بالاستمتاع: التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أما استمتاع الجن بالإنس: فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي، فوقعوا فيها وتلذذوا بها.
فذلك هو استمتاعهم بالجن؛ وقيل: استمتاع الإنس بالجن: أنه كان إذا مرّ الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ بربّ هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] وقيل: استمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب، وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا} أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به. ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم ف {قَالَ النار مَثْوَاكُمْ} أي موضع مقامكم. والمثوى: المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر.
قوله: {خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} المعنى الذي تقتضيه لغة العرب في هذا التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات، إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها.
وقال الزجاج: إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدّتهم في الحساب، وهو تعسف، لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم، ولا يصدق على من لم يدخل النار، وقيل: الاستثناء راجع إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير. وقيل: الاستثناء لأهل الإيمان، و{ما} بمعنى من، أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار. وقيل المعنى: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب. وكل هذه التأويلات متكلفة، والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص، لا سيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ}
[هود: 107] ولعله يأتي هنالك إن شاء الله زيادة تحقيق.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي جعفر المدائني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد ابن علي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له»، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».
وأخرج عبد بن حميد، عن فضيل نحوه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، عن الحسن نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله حين نزلت هذه الآية فذكر نحوه.
وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً من طريق أخرى.
وأخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن النجار في تاريخه عن عبد الله بن المستورد، وكان من ولد جعفر بن أبي طالب قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه. وهذه الطرق يقوّي بعضها بعضاً، والمتصل يقوّي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبويّ متعين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية يقول: من أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عليه ضيقاً، والإسلام واسع وذلك حين يقول: {وَمَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {دَارُ السلام} قال: الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن جابر بن زيد قال: السلام هو الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ قال: الله هو السلام، وداره الجنة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} يقول: من ضلالتكم إياهم، يعني: أضللتم منهم كثيراً، وفي قوله: {خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} قال: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنة ولا ناراً.


قوله: {وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} أي مثل ما جعلنا بين الجن والإنس ما سلف {كذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} والمعنى: نجعل بعضهم يتولى البعض، فيكونون أولياء لبعضهم بعضاً، ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا: نجعله ولياً له.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
وروي عنه أيضاً أنه فسر هذه الآية بأن بالمعنى: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله، فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالماً آخر.
وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم، فقف وانظر متعجباً. وقيل معنى نولي: نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} للسببية، أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضاً.
قوله: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} أي يوم نحشرهم نقول لهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أوهو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر، وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجنّ رسلاً منهم، كما يبعث إلى الإنس رسلاً منهم. وقيل معنى منكم: أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف، والقصد بالمخاطبة، فإن الجنّ والإنس متحدون في ذلك، وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجنّ من تلك الحيثية. وقيل: إنه من باب تغليب الإنس على الجنّ كما يغلب الذكر على الأنثى. وقيل المراد بالرسل إلى الجنّ هاهنا هم النذر منهم، كما في قوله: {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. قوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى} صفة أخرى لرسل، وقد تقدّم بيان معنى القصّ. قوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة جواب سؤال مقدّر فهي مستأنفة، وجملة {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} في محل نصب على الحال، أو هي جملة معترضة {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين} هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم، والآيات التي جاءوا بها، وقد تقدّم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرّحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم، ومثل قولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] محمول على أنهم يقرّون في بعض مواطن يوم القيامة، وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم، واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول، وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم. وأن في {أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى} هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف.
والمعنى: ذلك أن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى، أو هي المصدرية، والباء في {بِظُلْمٍ} سببية، أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم، والحال أن أهلها غافلون، لم يرسل الله إليهم رسولاً. والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده؛ لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الأعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]؛ وقيل المعنى: ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء؛ وقيل المعنى: أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]. {وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ} أي لكلّ من الجنّ والإنس درجات متفاوتة مما عملوا، فنجازيهم بأعمالهم. كما قال في آية أخرى: {وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19]، وفيه دليل على أن المطيع من الجنّ في الجنة، والعاصي في النار {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} من أعمال الخير والشر، والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره، قرأ ابن عامر {تَعْمَلُونَ} بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} قال: يوليّ الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا يتبع بعضهم بعضاً في النار.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن زيد، في الآية مثل ما حكينا عنه قريباً.
وأخرج أبو الشيخ، عن الأعمش في تفسير الآية قال: سمعتهم يقولون إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم.
وأخرج الحاكم في التاريخ، والبيهقي في الشعب، من طريق يحيى بن هاشم حدّثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كما تكونون كذلك يؤمر عليكم» قال البيهقي: هذا منقطع ويحيى ضعيف.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {رُسُلٌ مّنكُمْ} قال: ليس في الجنّ رسل، وإنما الرسل في الإنس، والنذارة في الجنّ، وقرأ: {فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، أيضاً عن الضحاك قال: الجنّ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً، عن ليث بن أبي سليم قال: مسلمو الجنّ لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً، عن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم، وخلق في النار كلهم، وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجنّ، لهم الثواب وعليهم العقاب.


قوله: {وَرَبُّكَ الغنى} أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم، ولا يضرّه كفرهم، ومع كونه غنياً عنهم، فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطوّل {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها العباد العصاة، فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِ إهلاككَمْ ما يشاء من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم {كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ} الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، أي ويستخلف استخلافاً مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين، قيل: هم أهل سفينة نوح، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم، ولا استخلف غيرهم رحمة لهم، ولطفاً بهم {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من البعث والمجازاة {لآتٍ} لا محالة، فإن الله لا يخلف الميعاد {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين عما هو نازل بكم، وواقع عليكم: يقال أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني.
قوله: {قُلْ ياقَوْم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} المكانة: الطريقة، أي اثبتوا على ما أنتم عليه، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، إني ثابت على ما أنا عليه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من هو على الحق ومن هو على الباطل، وهذا وعيد شديد، فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر: و{عاقبة الدار} هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة.
وقال الزجاج: معنى مكانتكم: تمكنكم في الدنيا، أي اعملوا على تمكنكم من أمركم. وقيل: على ناحيتكم. وقيل: على موضعكم. قرأ حمزة والكسائي {من يكون} بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والضمير في {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} للشأن: أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم.
قوله: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام} هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه، أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيباً، ولآلهتهم نصيباً من ذلك، يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوّضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا: الله غنيّ عن ذلك، والزعم الكذب قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي {بِزُعْمِهِمْ} بضم الزاي، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله} أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم، وقرى الضيف {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه.
وقيل معنى الآية: أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى الوصول إلى الله، والوصول إلى شركائهم، وقد قدّمنا الكلام في ذرأ.
قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} أي: ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم، زين لهم قتل أولادهم. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم هاهنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل هم الشياطين، وأشار بهذا إلى الوأد، وهو دفن البنات مخافة السبي والحاجة. وقيل كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرنّ أحدهم كما فعله عبد المطلب. قرأ الجمهور {زين} بالبناء للفاعل ونصب {قتل} على أنه مفعول زيَّن، وجرّ أولاد بإضافة قتل إليه، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرأ الحسن بضم الزاي ورفع قتل وخفض أولاد، ورفع شركاؤهم على أن قتل هو نائب الفاعل، ورفع شركاؤهم بتقدير يجعل يرجعه، أي زينه شركاؤهم، ومثله قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط ما تطيح الطوائح
أي يبكيه ضارع، وقرأ ابن عامر، وأهل الشام بضم الزاي، ورفع قتل، ونصب أولاد، وخفض شركائهم على أن قتل مضاف إلى شركائهم، ومعموله أولادهم، ففيه الفصل بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول، ومثله في الفصل بين المصدر وما أضيف إليه، قول الشاعر:
تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت *** غلائل عبد القيس منها صدورها
بجر صدورها، والتقدير: شفت عبد القيس غلائل صدورها. قال النحاس: إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر لاتساعهم في الظروف، وهو أي الفصل بالمفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القرآن أبعد.
وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: إن قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية وهي زلة عالم، وإذا زلّ العالم لم يجز اتباعه، وردّ قوله إلى الإجماع، وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرّق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، كقول الشاعر:
كما خط الكتاب بكف يوما *** يهودي يقارب أو يزيل
وقول الآخر:
لله درّ اليوم من لامها ***
وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة: إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي فصيحة لا قبيحة. قالوا: وقد ورد ذلك في كلام العرب، وفي مصحف عثمان رضي الله عنه {شركايهم} بالياء.
وأقول: دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين، كما بينا ذلك في رسالة مستقلة، فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فقراءته ردّ عليه، ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم كما قدّمنا، وكقول الشاعر:
فزججتها بمزجَة *** زج القلوص أبي مزاده
فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها، وفي الآية قراءة رابعة وهي جرّ الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاءهم في النسب والميراث. قوله: {لِيُرْدُوهُمْ} اللام لام كي، أي لكي يردوهم، من الإرداء وهو الإهلاك {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} معطوف على ما قبله، أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم ولخلط دينهم عليهم {وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله عدم فعلهم ما فعلوه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا كان ذلك بمشيئة الله {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضرك.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبان بن عثمان قال: الذرية الأصل، والذرية النسل.
وأخرجا أيضاً عن ابن عباس {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} قال: بسابقين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {على مَكَانَتِكُمْ} قال: على ناحيتكم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عنه أيضاً في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ} الآية. قال: جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً، فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشياطين في نصيب الله، ردّوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء، وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه نحوه من طريق أخرى.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: جعلوا لله مما ذرأ من الحرث جزءاً أو لشركائهم جزءاً، فما ذهب به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهب به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه. والأنعام التي سموا لله: البحيرة والسائبة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} قال: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خوف العيلة.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12